إلى سيدي أحمد الجعبري:
من هذا الجسد.. تبدأ مسيرة الصبح الذي لا ينفد
كانت الشمس تغيب، في لحظة انفجار نهر النور، من الأرض إلى السماء، منبع النهر غزة.من هذا الجسد.. تبدأ مسيرة الصبح الذي لا ينفد
كانت الشمس تمتثل لأمر ربها، تنتظم في ناموس كوني، خجلى، في فرح، إذا توسطت صدر السماء؛ سماء غزة.
تحب الشمس غزة، تتلهف ليومها الآتي. كانت إذا عادت لعرش الرحمن ساجدة، تشكر
ربها، وتثني على نعمه، وفي بالها غزة، وقلبها في شوق إلى دفء غزة، تسأل
ربها: لا تحرمني ربي سماء غزة.
كانت الشمس خجلى في فرح، إذا توسطت هذه السماء، فأم الشموس كلها غزة، آلآن؛
عرفتُ سرّ ذلك الخجل، والفرح المتوتر، والكربة البشوشة، إذا طالعتُ الشمس
في سماء غزة، فالشمس في حضرة أم الشموس، وهذه السماء مشغولة هذا المساء
بمهجة أمّ الشموس.
تغيب الشمس؛ فالسماء مزدحمة بالموكب المهيب، والسماء مذهولة من كرم أمّ
الشموس، منبع النور، فغزّة تمنح السماء مهجتها، وتهدي السماء بهجتها.
والموكب السماوي الآن، يباهي أهل الأرض، أن صار فيه واحد آخر من غزة،
والموكب السماوي يتساءل: كيف نردُ كَرَمَ غزة؟ والموكب السماوي لا يشفق على
غزة، فشمسها الأثيرة، ليست شمسها الوحيدة، ونبع النور في غزة يفيض وصلًا
بين الأرض والسماء.
غزة، يا أيها الناس؛ لا تستنير بنجوم السماء. غزة تمنح السماء نورها، كي تنير لكم سبيل الرشاد.
يا أيتها البشرية، غزة أوسعُ من السماء، أرحب من الكون، هنا؛ في غزة، حضن
البشرية الحاني، هذه غزة؛ صاحبة الرسالات الجديدة للبشرية، رسلها شهداء،
تنفجر بهم عمود نور إلى السماء. يا أيتها البشرية؛ تشفق عليك غزة من
ظلماتك، من هذا الكدر المستحكم، فترسل إلى سمائك أجمل من تدخرهم للرسالات
العظيمة، والمهمات الجسيمة.
هذه الحياة الكئيبة المنكودة التعسة التي تلف البشرية، تنبض لها غزة
بالحياة ذات المعنى، حينما يتفتح شهداء غزة في سماء البشرية، تشرق الحياة
الخضرة على جدران هذه الكآبة التي نكبت البشرية نفسها بها، ومن اهتدى من
البشر، فتحت له كوة من هذا الجدار إلى الحياة التي يرسلها شهداء غزة في
السماء.
يا أيتها البشرية؛ وغزة؛ أضيق من خرم إبرة، أضيق من فوهة بندقية، هنا؛ في
غزة، يكمن الموت للشر، هذه غزة؛ الشوكة الرقيقة التي تنصب كمائنها لمصفحات
الظلام، هنا غزة؛ آية الله التي لا تنقضي، يهزم موسى فرعون، ومحمد يهدم
كسرى وقيصر، وغزة لا تموت، تلتئمُ جراحها، وتنهض وتنصب الكمين من جديد.
يا أيها الناس، ليست أسطورة يونانية قديمة، إنها معجزة ربانية ماضية. من
سمع عن جراح تلتئم وحدها، وشوكة تخفيف طائرة، وموجة تعصف بسفينة حربية،
وومضة ترهب سلاحًا نوويًا، فإنما قد سمع عن غزة.
غزة رحبة إذ هي هداية للبشرية، وغزة ضيقة إذ هي موت للظالمين.
أحمد الجعبري؛ مهجة غزة، لم يترك غزة، وإن أهدته إلى السماء، هو حبل الله
اليوم الواصل بين الأرض والسماء، ما حرم أحمد الجعبري بصعوده الناس من شموخ
عزهم، هو عمود النور الذي يحفظ صلة هذه الأرض بوحي السماء.
ما حرم أحمد الجعبري الناس من أمانيهم، هو اليوم يتسع في صدر السماء أماني على أهله في كل فلسطين.
ما صعد أحمد الجعبري وطلقته في يده، يكفيه كل هذا النور ينثال على البشرية،
إنما ترك في كل كف تنتظر طلقة، وفي كل قلب مرهف حلم بالشهادة، وتوق إلى
الانفجار العظيم، حينما تهدي فلسطينُ إلى السماء كل نورها، فتتخلص هذه
البشرية من كل مآسيها.
لا يسمع الناسُ إلا صخب الانفجار، لكن الجعبري هادئ، والمحبون ليسوا كما
الناس، يعانقون هدوءه المتورد، وهو ينتظم في لوحة كمال النور في السماء،
متخذًا مكانه، والمحبون ينتظرون اتخاذ أماكنهم من جديد. إنما المحبون
يجهدون في الأرض لملأ أماكنهم في السماء، وحينما تكتمل لوحة النور، "تبدل
الأرض غير الأرض والسماوات"، ثم يرتسم المحبون من جديد في السماوات
الجديدة، حينما يتراءى الذين دونهم درجات أولئك في الأعالي الجديدة "إن أهل
الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر أي
النجم في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله
تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا
بالله وصدقوا المرسلين"، "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في
سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض".
كما ينفجرون في الأرض، من روح أمّهم غزة، يسكنون انفجارات الحياة الأبدية:
"فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، فوقه عرش
الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".
أحمد الجعبري؛ ما أخذ سره معه، نثره في كل بيوت غزة، يشتعل في كل بيت،
ويحتشد الناس حول السر، يضيء دفئًا في أضلاعهم، حتى إذا جاء الصيف، استحال
السرّ بردًا وسلامًا على أهل غزة.
كان أحمد الجعبري، يصنعُ كل شيء للحياة، حتى إذا أتم مهمته الأولى، في داره
الأولى، كان قد ترك من خلفه للناس، كل شيء للحياة، ماءهم، وهواءهم،
وضياءهم، وخبزهم، وملحهم، وأغانيهم.. في وجدان كل محب اليوم صوت الجعبري
يهدل بأغانيه، بلغة غير اللغة، حروفها نسيم في كل خلايا الحنايا.
قال الجعبري؛ ومن قبله الشهداء، كل شيء يبدأ من هنا، من هذا الجسد، إذا
تشظَّى، من هذا الجسد، إذا نزف، منذ هذا الجسد اذا ابتسم، برصاصة، أو
قذيفة، تنفتح الأجساد على ابتسامة، هنا تبدأ مسيرة الورود، والحدائق،
والمطر، والنور، هنا؛ من جسدي، من ابتساماته التي اجترحتها القذائف، من
هنا؛ تبدأ مسيرة الصباح الذي لا ينفد!